كيف أعاد عمر بن عبد العزيز للدولة قوتها واستقرارها؟ لا شك أنَّ معرفة سيرة السلف الصالح وتراجم الخلفاء أمرٌ حسن مندوب إليه، وخاصة الحقبة الأولى من الذين كانوا مثالاً عاليًا في كل الصفات وفي معرفة تراجمهم دافع للمسلم للاقتداء بهم، والتأسي بأفعالهم وأخلاقهم ومآثرهم وخاصة في مثل هذا الوقت.
ومن هؤلاء الخلفاء المشهود لهم بكمال الخلق والصفات الخليفة عمر بن عبد العزيز، الذي لقب بخامس الخلفاء الراشدين، حيث تبوأ مكانةً سامقة في التاريخ الإسلامي، لم ينلها إلا القلة من القادة وأئمة العلم. ولد عمر في المدينة المنورة، وتربّى عند أخواله آل عمر بن الخطاب - ليسير على خُطى جده الفاروق في العدل والجرأة على الحق، فنشأ منذ طفولته محبًّا للعلم مقبلاً عليه، وكان ملازما لمجالس العلماء والصحابة والتابعين، فبلغ عدد أساتذته ثلاثة وثلاثين أستاذا ، ثمانية منهم من الصحابة، والباقي من التابعين - -. تولى عمر المدينة المنورة وهو ما زال بعمر السادسة والعشرين، واستقبله أهل المدينة استقبالاً حسنًا؛ لأنهم يعرفون خلقه وفضله من نشأته بينهم، وقد كان من خيرة الولاة وأفضلهم وأكثرهم كفاءة. وفي فترة ولايته للمدينة ساد الأمن والعدل، وشعر أهلها بالهدوء والاستقرار، وجدد عمر المسجد النبوي، وعمل على تحسين
علام يدل بكاء عمر بن عبد العزيز في مصلاه بعد توليه الحكم؟
عمارته، وبقي على ولاية المدينة ما يقرب من ست سنوات، أكسبته خبرة واسعةً في شؤون الحكم والخلافة حتى عزله الخليفة الوليد، ولم يكن ذلك بسبب تقصير أو إهمال وتقاعس؛ ولكن بسبب وشاية استجاب لها الوليد. بعد أن تولى سليمان بن عبد الملك الخلافة استعان بعمر مستشارًا ومعاوناً ووزيرًا له، وعندما حَضَرته الوفاة أوصى له بالخلافة من بعده؛ لما رآه فيه من القدرة والكفاءة والتقوى والصلاح، والميل إلى الحق والعدل.
كان الخليفة عمر بن عبد العزيز إداريًا وسياسيًا عظيما، إضافة إلى صلاحه وتقواه، فعم العدل والخير بلاد المسلمين، ورجعت الحقوق إلى أصحابها، وأخبر ولاة الأمر على إعطاء كل ذي حق حقه، وكان قد بدأ بنفسه، فضرب به المثل في الزهد وتداولت العديد من الحكايات عن زهده.
كما احترم حقوق الإنسان وذوي الاحتياجات الخاصة؛ فقد جعل للمرضى خدما يقومون على راحتهم، وعين لكل خمسة أيتام خادمًا، ولكل أعمى خادمًا يعينه في حاجته، وكان حريصًا على تدوين الحديث الشريف، خوفا من اندثاره وضياعه، فأصدر أمره الجميع الولاة والعلماء بتدوينه، حيث فرضَ الرواتب للعلماء؛ ليتفرغوا للبحث العلمي، وعقد مجالس التعليم. ومما يحسب له أنه أسقط الجزية عن أهالي البلاد المفتوحة؛ فقد كان معنيا أكثر بهدايتهم للإسلام، وقال في ذلك: "إِنَّ الله بعثَ محمدًا هاديًا، ولم يبعثه جابيًا"، فاتبع ولاله نهجه، وساروا على طريقه، فنتج عن هذه السياسة تدفق الأموال إلى بيت مال المسلمين التي استخدمت في تحسين مستوى حياة الناس، وبناء الدولة، وقضاء ديون الغارمين وفك رقاب الأسرى فعاش الناسُ في عهده برفاهية قل نظيرها، لدرجة أن المنادي كان ينادي في الأسواق عمن يحتاج لأموال الزكاة فلا يجد فقال مقولته الشهيرة: انثروا الحب على رؤوس الجبال حتى لا يقال : جاع الطير في بلاد المسلمين. ويذكر له موقف حين دخلت عليه زوجه فاطمة بعد توليه الحكم فقالت : "دخلت يوما عليه وهو جالس في مصلاه واضعا خدَّه على يده ودموعه تسيل على خديه فقلت: مالك؟ فقال: ويحك يا فاطمة قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع، والعاري المجهود واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة والمظلوم المقهور، والغريب والأسير والشيخ الكبير ، وذي العيال الكثير، والمال القليل، فعلمت أنَّ ربي جري سيسألني عنهم يوم القيامة، وأنَّ خصمي دونهم محمد ، فخشيت ألا يثبت لي حجة عند خصومته، فرحمتُ نفسي، فبكيت".